الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لَا يُسَلِّطُ أَهْلَ الْبَاطِلِ مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ رُسُلِهِ وَمُتَّبِعِيهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَلَا يُضَيِّعُ حَقًّا، وَلَا يَفُوتُهُ ظَالِمٌ.{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَيْ: فَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ وَلَمْ تَنْتَهُوا بِنَهْيِي لَكُمْ عَنِ التَّوَلِّي، وَلَمْ تُطِيعُوا أَمْرِي لَكُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ الْإِشْرَاكِ بِهِ {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} أَيْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيَّ غَيْرُ الْبَلَاغِ وَلَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْكُمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} إِذَا هُوَ أَهْلَكَكُمْ بِإِصْرَارِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَإِجْرَامِكُمْ {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} مَا مِنَ الضَّرَرِ بِتَوَلِّيكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ إِيمَانِكُمْ {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (39: 7) وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا أَنَّكُمْ لَا تَضُرُّونَ رَسُولَهُ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أَيْ: قَائِمٌ وَرَقِيبٌ عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ وَالْبَقَاءِ، عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ سُنَّتُهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَهُمْ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِنْجَاءِ هُودٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَالْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ لِقَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عَذَابُنَا أَوْ وَقْتُهُ {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنَّا خَاصَّةٍ بِهِمْ. مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ فِي أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَارِضِ الَّذِي يُصِيبُ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِ نُوحٍ لِوَلَدِهِ: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (43): {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أَعَادَ فِعْلَ التَّنْجِيَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ {مِنَّا} الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ {مِنْ} الدَّاخِلَةِ عَلَى الْعَذَابِ. أَيْ: وَإِنَّمَا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ شَدِيدِ الْغِلْظَةِ، فَظِيعٍ شَدِيدِ الْفَظَاعَةِ، غَيْرِ مَعْهُودٍ فِي الْعَالَمِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، الَّتِي لَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، وَبِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (54: 19 و20) وَقَوْلِهِ فِي وَصْفِ هَذِهِ الرِّيحِ الْعَاتِيَةِ: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (69: 7 و8).{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أَيْ: كَفَرُوا بِجِنْسِ الْآيَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ بِجُحُودِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ مِنْهَا، أَنَّثَ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِمْ عَلَى إِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ: إِشَارَةً إِلَى آثَارِهِمْ، وَالْجُحُودُ بِالْآيَاتِ تَكْذِيبُ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ عِنَادًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (27: 14): {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أَيْ: عَصَوْا جِنْسَهُمْ بِعِصْيَانِ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ وَإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ؛ فَإِنَّ عِصْيَانَ الْوَاحِدِ عِصْيَانٌ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ، إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَفْضِ الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا، بِادِّعَاءِ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ بَشَرًا {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أَيْ وَاتَّبَعَ سَوَادُهُمْ وَدَهْمَاؤُهُمْ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمُ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ الْمُسْتَبِدِّينَ فِيهِمْ بِالْقَهْرِ، فَالْجَبَّارُ الْقَاهِرُ الَّذِي يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ بِالْقَهْرِ وَالْإِذْلَالِ، أَوْ مَنْ يَجْبُرُ نَقْصَ نَفْسِهِ بِالْكِبْرِ وَدَعْوَى الْعَظَمَةِ، وَالْعَنِيدُ: الطَّاغِي الَّذِي يَأْبَى الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُ لَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ بَقَايَا الْمُلُوكِ الْجَبَّارِينَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ؟{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} إِتْبَاعُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ: لُحُوقُهُ بِهِ وَإِدْرَاكُهُ إِيَّاهُ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ، أَيْ لَحِقَتْ بِهِمْ لَعْنَةٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَكَانَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكَ آثَارَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ بَلَّغَهُ الرُّسُلُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَبَرَهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَتَتْبَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا يَلْعَنُ الْأَشْهَادُ الظَّالِمِينَ أَمْثَالَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَتَانِ مِنَ اللهِ: لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} هَذِهِ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، أَيْ: كَفَرُوا نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِجُحُودِهِمْ بِآيَاتِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لِرُسُلِهِ كِبْرًا وَعِنَادًا، يُقَالُ: كَفَرَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَمَعْنَى مَادَّةِ الْكُفْرِ فِي الْأَصْلِ التَّغْطِيَةُ، {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ مِنَ الرَّحْمَةِ حِكَايَةً لِبَدْئِهِ، وَتَسْجِيلًا لِدَوَامِهِ، كَرَّرَ أَلَا الْمُنَبِّهَةَ لِمَا بَعْدَهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَكَرَّرَ اسْمَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِـ قَوْمِ هُودٍ لِيُفِيدَ السَّامِعَ بِالتَّكْرِيرِ تَقْرِيرَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِللَّعْنَةِ وَالْإِبْعَادِ وَسَبَبِهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ لِرَدِّ الدَّعْوَةِ الْمُعَقِّبَةِ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى ضِدِّهِ مِنْ شَقَاءٍ وَنِقْمَةٍ.
وهذا الوجه كاف. والوجه الأول أنسب لراعي النظم، والله أعلم. اهـ.
. اهـ.
|